باري جينكنز: أن تصنع أفلاماً من القلب وتنظر إلى الداخل
حين تساءل العالم عن الخطوة التالية لمخرج "Moonlight" بعد فوزه بثلاث جوائز أوسكار، كان باري جينكنز يتساءل عن كيفية إنصاف جيمس بالدوين على الشاشة. والنتيجة؟ فيلم شاعري وحميم بعنوان "If Beale Street Could Talk"—اقتباس عن رواية بالدوين بالاسم ذاته جاء كتحالف فني نادر بين كاتب ومخرج، كلاهما يبحث في وجدان الإنسان الأسود وأشواقه المتناقضة.
لكن كيف يصنع جينكنز أفلامًا بهذا العمق، مرة بعد مرة؟ في لقاء مع منصة No Film School خلال مهرجان نيويورك السينمائي، قدّم جينكنز رؤيته للسينما، المشتبكة مع الذات والواقع، والمبنية على المجازفة والانتباه لأدق التفاصيل.
أن تولد من الخراب... وتختار الأمل
وُلد جينكنز في ظروف صعبة: أب غائب، وأم مدمنة على الأدوية. لكنه لم يستسلم للتشاؤم. يقول: "كنت أعلم أن الحياة لن تكون سهلة. لكن البقاء على قيد الحياة كمُتشائم كان سيجعلها مستحيلة." هذا الميل الغريزي نحو الأمل يظهر في كل أفلامه، حتى تلك التي تغوص في المآسي.
منذ أيام دراسته، بدأ يروي قصص الحب في أماكن لا يُتوقع أن تنمو فيها. في فيلمه القصير My Josephine، يصور قصة رومانسية حالمة لزوجين من أصول شرق أوسطية يعملان في مغسلة ملابس، وتتحوّل عدسة المصور، جيمس لاكستون، إلى أداة روحانية تلتقط لحظات الصفاء بينهما.
السينما... شغف مكتسب
بدأ جينكنز بدراسة الأدب الإنجليزي، وكان ينوي أن يصبح مدرسًا. لكن شيئًا ما تغيّر حين بدأ يرتاد متجر Blockbuster. هناك اشتعلت شرارة السينما داخله. في معهد السينما، أدرك أنه متأخر عن زملائه، فابتلع كل ما توفر له من أفلام، خصوصًا موجة السينما الفرنسية الجديدة. "كنت أشاهد الكثير من أفلام جودار... وفيلمي القصير آنذاك يعكس ذلك. كنت غارقًا في الفن التجريبي." لكنه لا ينسى أن Die Hard كان له الأثر الأعظم: "حين شاهدت أسماء طاقم العمل في التترات، فهمت أن الفيلم هو جهد جماعي. ومن تلك اللحظة، صارت السينما شيئًا أكبر من الحياة."
الكتابة من الداخل... والسفر إلى المجهول
حين أنهى دراسته، لم يجد لنفسه طريقًا واضحًا. عمل كمساعد، ثم في شركات تطوير الأفلام مثل Harpo Films، لكنه شعر بالفراغ. قرر مغامرة غير مأمونة: سحب مدخرات التقاعد وسافر عبر أميركا بلا هدف. لاحقًا، اعتبرها خطوة محورية ساعدته على كتابة فيلمه الأول Medicine for Melancholy.
ثم حين حصل على تمويل لتطوير "مشروع الحلم"، لم يُنفق المال على الإنتاج، بل على العزلة. استقر في بلجيكا—المدينة "الأكثر مللًا" حسب أصدقائه—وكتب مسودات متعددة لسيناريوهين: Beale Street وMoonlight. "كنت أعيش في شقق Airbnb، أكتب وحدي. لا شيء سوى الشخصيات وصوتي الداخلي. كتبت Beale Street في أربعة أسابيع، وMoonlight في عشرة أيام."
الإصغاء إلى الصوت الداخلي
ذلك "الصوت" الداخلي، الذي يسميه جينكنز "interiority"، هو جوهر العملية الإبداعية. كان يدوّن مشاعره وأفكاره منذ صغره، وبمرور الزمن صار هذا التمرين وسيلته لرؤية العالم من الداخل. "السينما اليوم تتحرك أكثر نحو الصورة، لذا يجب أن تكون هذه الصورة انعكاسًا لجوهر داخلي."
إنه يكتب من أعماقه، ويرى أن النظرة الداخلية—ذلك الحوار الصامت مع الذات—هي ما يجعل الشخصية تنبض، وما يمنح الصورة وزنها العاطفي.
التفاصيل تصنع الحكاية
في Beale Street، كل لقطة مدروسة: قبلة على رصيف رمادي، يدان متشابكتان في ليلة باردة، شعاع نور يخترق الدخان، لمسة حنونة خلف زجاج... حتى لون البشرة تعاطى معه جينكنز بعناية. "البشرة تعني الكثير. ليس فقط لأنني أصوّر شخصيات سمراء، بل لأنني أرى في إظهار ألوانهم بشكل لائق فعلًا عاطفيًا."
في تعامله مع نص بالدوين، لم يسعَ إلى النقل الحرفي. بل اختار أن يستلهم روح النثر، لا حرفه. "أسلوب بالدوين يشبه موسيقى الجاز. لا يمكنك اقتباس كل شيء، لكن يمكنك التقاط إيقاعه." لذلك غيّر بعض الأحداث، وعدّل النهاية لتمنح المشاهد "أملًا واقعيًا"، كما وصفه.
الطريق إلى الإبداع... هو طريقك وحدك
يستعد جينكنز اليوم لإخراج مسلسل عن رواية The Underground Railroad، لكنه لا يزال يحمل روحه القديمة. ينصح المبدعين بالصبر والتركيز. "لا أحد ينجح بين ليلة وضحاها. استغرق الأمر عشرين سنة ليصل ماهرشالا علي إلى القمة. عليك أن تحب الحرفة."
ويختم بجملة تُلخّص كل شيء: "قد لا أُنقذ العالم بفني. لكن يمكنني أن أُغيّر، ولو بقدر مليمتر، الطريقة التي يرى بها الناس الواقع. وهذا يكفي."
خاتمة: أن تحب... يعني أن تنتمي
بالدوين قال ذات مرة: "إن استطعت أن تُغيّر، ولو قليلًا، نظرة الناس إلى الواقع، فإنك تُغيّر العالم." وجينكنز يسير على الدرب ذاته، بصوت خافت، لكن حقيقي. في أفلامه، الحب ليس مجرد موضوع، بل هو نَفَس العالم. هو الشيء الذي يربط بين العرق والجنس والاختلافات كلها، ويمنح الحكايات إنسانيتها.
في زمن صاخب وواقع مضطرب، يذكّرنا جينكنز أن الطريق إلى الحقيقة... يمر أولًا عبر القلب.
تعليقات
إرسال تعليق
هل أعجبك المقال؟ شاركنا رأيك!
نحن نؤمن أن السينما تصبح أكثر إلهاماً حين نناقشها سوياً.