لماذا كان ستانلي كوبريك يكرر اللقطة عشرات المرات؟ تحليل معمق من كواليس فيلم Full Metal Jacket
التكرار عند كوبريك: أكثر من مجرد بحث عن الكمال
الكثيرون يربطون تكرار اللقطات عند كوبريك بالرغبة في تحقيق الكمال الفني فقط، إلا أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فالتكرار عند كوبريك كان وسيلة لإدخال الممثل إلى حالة من "الوجود الأصيل" على الشاشة، حيث يصبح الأداء تلقائياً وعفوياً كما وصف ماثيو مودين، بطل Full Metal Jacket:
"الأداء لا يجب أن يكون تمثيلاً واعياً، بل حالة من الوجود الطبيعي، كالرمشة أو دقات القلب، حيث يتوقف التفكير ويبدأ الوجود."
هذا المفهوم يرتكز على فكرة أن الممثل إذا ظل يفكر في كلماته أو حركاته، فإن المشاعر لن تكون حقيقية، وستبقى الأداء مصطنعاً.
ولذلك، كان كوبريك يُصرّ على أن الممثلين يحفظون حواراتهم عن ظهر قلب، بحيث لا يبقى في عقولهم احتمال وجود كلمات أخرى، وبهذا يصبح التمثيل عملية شديدة الصدق.
الممثلون وكوبريك: علاقة قائمة على الصبر والتحدي
روى فينسنت دونوفريو، الذي شارك في تصوير الفيلم، كيف كان كوبريك يدفع الممثلين إلى أقصى حدودهم:
"كان عنده ممثل يقوم بإعادة اللقطة لمدة يومين كاملين، ثم من خلال مكبر الصوت يقول: ’أخذنا اللقطة 72. لا، هذه ليست جيدة إطلاقاً، لننتقل إلى اللقطة 73.‘ لم يكن يحاول أن يكون مضحكاً، كان جاداً جداً."
الممثلون لم يكن بإمكانهم الضحك أو التقليل من شأن هذا الأسلوب، فكان الضغط كبيراً ويضعهم أمام اختبار حقيقي لصبرهم وإبداعهم.
في حالة ماثيو مودين، عندما دخلت زوجته المخاض المبكر واضطرت لإجراء عملية قيصرية طارئة، لم يكن كوبريك يريد أن يسمح له بالذهاب إلى المستشفى، معتبرًا أنه لا حاجة لوجوده هناك خلال فترة التصوير بعد الغداء. مودين كان غاضباً وهدد بإيذاء نفسه حتى يوقفوا التصوير ويُسمح له بمغادرة المكان.
رغم هذه الظروف الصعبة، كان الممثلون يتسابقون للعمل مع كوبريك، مع العلم أن النتيجة النهائية ستكون شيئاً مختلفاً ومميزاً.
لماذا هذا العدد الكبير من اللقطات في Full Metal Jacket؟
الاعتقاد السائد أن كوبريك كان يأخذ أكثر من 100 لقطة إعادة لكل مشهد هو جزء من الأسطورة، لكنه في الواقع كان عادة لا يتجاوز 30 لقطة، وقد تصل إلى أكثر في بعض الحالات الصعبة أو مع ممثلين لم يكونوا يحفظون الحوارات كما يريد.
في مقابلة له، قال كوبريك:
"لا يمكنك التمثيل دون معرفة النص عن ظهر قلب. إذا كان الممثل يفكر في الكلمات أثناء الأداء، فإنه لا يستطيع التركيز على العاطفة. لذلك تُعاد اللقطات عدة مرات، ولا يزال بإمكانك رؤية تركيزهم في العيون؛ فهم لا يعرفون النص حقاً."
هذا ما جعل التصوير يستغرق وقتاً طويلاً، مع الممثلين الجدد أو غير المتمرسين خصوصاً. أما لي إيرمي، الذي كان جندياً حقيقياً في حرب فيتنام وعرف نصوصه جيداً، فقد كان كوبريك يأخذ منه 8 أو 9 لقطات إعادة فقط في المتوسط.
كوبريك والممثل البريطاني مقابل الأميركي
وفقاً لماثيو مودين، كان كوبريك يفضل الممثلين البريطانيين لأنهم يبدؤون من النصوص، في حين أن الممثلين الأميركيين عادةً يبدأون بتطوير الشخصية ثم يذهبون إلى الحوارات:
"الممثلون البريطانيون يستخدمون النص ليصلوا إلى الشخصية، وليس العكس."
وكانت هذه الطريقة تلائم فلسفة كوبريك التي تركز على التكرار حتى يصبح النص والسلوك نابعين طبيعياً من داخل الممثل.
أسلوب كوبريك في الإخراج: صمت وتوجيهات قليلة
كان كوبريك نادراً ما يعطي توجيهات واضحة أو يحاول شرح ما يريد في المشهد. بل كان يترك للممثلين حرية البحث والتجربة، لكنه في الوقت نفسه كان صارماً:
"هو لا يخبرك ماذا تفعل بالضبط، لكنه يقول ’أحتاج أن يكون هذا أفضل‘ أو ’لا تعملها هكذا‘، وأحياناً يقول ’أعدها‘ مباشرة أمام الجميع."
وكان هذا الأسلوب يخلق حالة من الغموض التي كانت تدفع الممثلين إلى البحث عن الأداء الصحيح بأنفسهم، مما أدى إلى لحظات من التمثيل الحقيقي والصادق.
العلاقة بين الممثل والشخصية
فلسفة كوبريك: لا يهم الشعور بل النتائج
قال كوبريك في مقابلة:
"مررت بفترات أثناء التصوير كنت أشعر فيها بأن العمل سيء أو جيد، لكن هذا شعور غير مهم. الأفكار تأتي أحياناً من مكان بعيد عن مشاعري."
وكان المساعدون مثل مصور السينما دوغلاس ميلسوم يشرحون:
"عدد اللقطات الكثيرة ليست تكراراً فقط، بل بناء تدريجي على فكرة أو موضوع في المشهد حتى يتحول إلى شيء فني غير متوقع."
خاتمة
ستانلي كوبريك لم يكن مجرد مخرج يكرر اللقطات بحثاً عن الكمال السطحي، بل كان صانعاً يسعى إلى إخراج جوهر الأداء، إلى لحظة الصدق المطلق التي تلامس الروح.
في زمن تتسارع فيه عمليات الإنتاج، بقي كوبريك نموذجاً للتمسك بالفن والتفاصيل، حتى وإن كان الثمن وقتاً طويلاً وجهداً هائلاً.
في النهاية، كما قال أحد الممثلين بعد انتهاء التصوير:
"عندما تعمل على فيلم آخر ويقول المخرج ’اقطع، حصلنا عليها، لننتقل‘ ستفتقد كوبريك لأنك تعلم أنه لم يكن ليرضى إلا حين تكون قد حصلت على اللقطة الحقيقية."
هذا هو سر العبقرية والصرامة معاً، سر الذي جعل أفلام كوبريك خالدة ومتفردة في عالم السينما.
تعليقات
إرسال تعليق
هل أعجبك المقال؟ شاركنا رأيك!
نحن نؤمن أن السينما تصبح أكثر إلهاماً حين نناقشها سوياً.